في كل عام تخرج علينا المجلة الأميركية الشهيرة TIME بقائمة للأشخاص المائة الأكثر تأثيراً في العالم ومَن كانت
منجزاتهم سبباً في إلهام الآخرين، وتشمل تلك القائمة أشخاصاً من مشارب شتى ومجالات متنوعة من السياسة والدين والفن
والعلم والموسيقى والأدب والاتصال وغيرها، في محاولة دائبة منهم لخلق قدوات جديرة بأن يُشار لها بالبنان وأن تُمثّل لَبِنَةً
في بناء الحضارة الإنسانية الممتدة تُضاف إلى ما سبق من لَبِنات ما زالت تُحاط بهالات التقدير والعرفان،
وحدها المجتمعات العظيمة مَن تعرف قَدَر عُظمائها وتحفظ لهم حقهم وما يستحقونه من تبجيل و«حشمة»، وإنْ كنّا نتفق جميعاً أنّه لا قُدسية للبشر مهما بلغوا ولكن ذاك لا يعني أنْ تُساوى الأيادي البيضاء مع الغوغاء أو لا يُفرّق بين من أفنى عمره لخدمة دينه ووطنه ومجتمعه وبين من لا يعرف سوى الأكل والنوم والثرثرة، فأخطاء العظيم تُغتَفر في جوار سِجِل حسناته ومآثره، وعندما تُغيّب الـمَنيّة ذاك العظيم ويمتنع عليه الدفاع ضد من يلوك في سيرته كذباً وتزويراً فإنّ من واجب الأمة أن تنتصر له وتكف ألسنة السوء التي لا تعرف خيراً ولا تتوقف عن سوق الأكاذيب.
خرج قبل أيام كاتبٌ لم يُعرَف إلا بالروايات والأقاصيص أمّا بقيّة كُتبه فلم يكترث لها أحد لغرقها المخجل في نظرته الطُرُقيّة الضيقة للإسلام السمح، ليقول بكل وقاحة إن بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي أحد «أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني»، إي والله قد قالها، وساق بعدها أكاذيب مخجلة لا توجد في كتب التاريخ المعتد بها والتي لا يبدو أنه يعرف جيّدها من رديئها.
فمدار آرائه عن صلاح الدين مستقاة من أكاذيب المسعودي الرافضي في تاريخه المسموم المسمّى «مروج الذهب»، لكنّه تعامى أو ربما استكثر أن يقرأ تاريخ ابن الأثير والذي أفرد قرابة 220 صفحة للحديث عن صلاح الدين وسيرته الحسنة ومآثره، وكم هو مخجل أن يُنصف الغرب بطلاً من أبطال الإسلام ويفتري عليه من ينتسبون له.
فالفيلسوف الإيطالي القديم دانتي ذكر صلاح الدين في «الكوميديا الإلهية» مع عظماء الغرب كسقراط وأرسطو، والفرنسية آن ماري إدي ألّفت كتاباً عنه وقالت :«إنّه فرض نفسه في حياته كواحدٍ من أعظم قادة إسلام الانتصارات» وبأنّه «مارس فن الحرب والتزم بأخلاق الفارس كأحسن ما يكون».
قد نتفهم هجوم كتّاب إيران والمأجورين لكون صلاح الدين قضى على الدولة العبيدية الرافضية التي تسمى زوراً الفاطمية وحرقه موجودات مكتبتهم التي مُلئت بشتم الصحابة وأُمّهات المؤمنين وتأليه بعض حكامهم، ولكن لماذا يتباكى هذا الكاتب على دولة باطنية ادّعى بعض حُكامها الألوهية وأحرق أحدهم ثلث الفسطاط وأمر الأتراك والعبيد والصقالبة ليقتلوا أهاليها ويسبوا نسائها، ولماذا تجاهل إنشاء صلاح الدين لمكتبة القاهرة وتزويدها بأكثر من مئة ألف مجلد، وأنشأ مئات المدارس لتدريس علوم الشريعة والطب والصيدلة والعمارة والفلاحة؟
قبله خرج روائي آخر من المدرسة ذاتها للأسف برواية بُنيت على كل مُلفّقٍ ورواية ساقطة من كتب التاريخ وأتى فيها بما لم يسبقه إليه أحد وهو يحاول نسب الإرهاب ورحلة الدم إلى من أسماهم «القَتَلة الأوائل» والذين لم يكونوا لدى «أبو العُرّيف» هذا سوى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في سُعارٍ محموم لتشويه صفحات تاريخنا الناصعة بطريقةٍ لم يتجرأ عليها حتى المستشرقين في افتئاتهم على الإسلام وأعلامه.
إنّ من المتعارف عليه لدى أصحاب التأصيل أن روايات القُصّاص لا يُعتدّ بها أبداً، والقُصّاص يشملون كُتّاب الروايات في هذه الأزمنة، وعندما يتصدر المشهد الحضاري في الدول المتقدمة المفكرون والعلماء والمنظّرون وكل من يملك مشروعاً أو جُزءاً من مشروع فكري حضاري نجد في الكثير من دولنا العربية أغلب من يتصدّر المشهد سُلطاء الألسن والتافهون وكل أهوج باحثٍ عن الشهرة.
وهي شُهرةٌ لن تأتي بالتأكيد من قوة الطرح، فهم خِلوٌ مِنه، ولكنها تأتي باستهداف القدوات وطعن الرموز الجليلة والتجرؤ على ثوابت العقيدة، وعندما يتم تقديم هؤلاء الإمّعات كمفكّرين، فإن ذلك يُشكّل سابقة خطيرة على الأجيال القادمة بجعلها تتجرأ على الثوابت والرموز السابقة وبالتبعية سيأتي الدور على الرموز الحالية، فهؤلاء لا يوجد سقف لديهم.
لا حدود دين ولا حدود أدب. لم يسلم منهم معاصر ولم يقف طعنهم حتى عند حدود الصحابة، ومَن شتم صلاح الدين كان قد شتمنا نحن عرب الجزيرة ودعانا باللصوص وقطاع الطرق.
قال العرب قديماً: «موتُ ألفٍ من العِلْية أقلُّ ضرراً من ارتفاعِ واحدٍ من السَّفَلة»، ولم يُخطئوا في هذا الوصف، فالأمة تستطيع أن تتدارك غياب عِلية القوم وسادتهم ورموزهم بمن يليهم سِنّاً من ذات الفئة ولكن المصيبة عندما يتصدّر للأمر السفلة كهؤلاء الكتّاب الذين لا يختلفون كثيراً عن نُظرائهم من الحزبيين كالإخوان.
فإن كان أولئك يستهدفون ولاة الأمر لإسقاط هيبتهم في أعين العامة، فهؤلاء لا يقلون خطراً بل هم أكثر خُبثاً لأنهم يستهدفون تفريغ ذاكرة المجتمع باجتثاث المرجعيات في السلوك والأخلاق والـمُثُل ليوجدوا فراغاً كبيراً يستطيعون حينها ملأه بما يريدون.
إنّ الأُمم التي لا تضع خطاً أحمر دون رموزها وثوابتها لن تلبث أنْ تُفرَّغَ من كينونتها وهويتها وقيمها، ومتى تصدّر المشهد صغارُ العقول خسرت الأمّة سنوات طويلة مقبلة لن يكون من اليسير إصلاحها لأن من سيأتي سيكون جيلاً تائهاً مُغيَّباً، وجيلاً دون ثوابت لا يعدو أن يكون أشبه بشجرةٍ دون جذور تُسْقِطُها الرياحُ الآتية كيفما تشاء ومتى تشاء.
المصدر: صحيفة البيان –
عوض بن حاسوم الدرمكي