عرض مشاركة واحدة
قديم 07-16-2015, 12:51 AM   #4
AL-ATHRAM
Senior Member
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
المشاركات: 351
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




يقول الشاب لم أكن بلغتُ الثلاثين من عمري حين انجبت زوجتي اول أبنائي .. ما زلت أذكر تلك الليه .. كنت سهران مع الشله في احدى الشاليهات ... كانت سهرة حمراء كما يقولون .. اذكر ليلتها اني أضحكتهم كثيراً .. كنتُ أمتلكُ موهبةً عجيبةً في التقليد .. بامكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريباً من الشخص الذي أسخر منه ... أجل .. كنتُ أسخر من هذا وذاك ، لم يسلم أحداً مني حتى شلّتي .. صار بعض أصحابي يتجنبني كي يَسّلمْ من لساني وتعليقاتي اللاذعة تلك ...

سخرتُ من رجلٍ أعمى رأيتهُ يتسول في السوق .. والأدهى اني وضعتُ قدمي ليتعثر .. تعثر الاعمى وانطلقت ضحكتي التي دوت في السوق .. عدتُ الى بيتي متأخراً .. وجدتُ زوجتي في انتظاري كانت في حالةٍ يرثى لها ..

قالت : أين كنتُ يا راشد ؟ قلتُ في المريخ ساخراً .. بالطبع عند أصحابي .. قالت والعبرةُ تخنقُها .. راشد أنا تَعِبةٌ جداُ الظاهر موعد ولادتي صارت وشيكاً .. سقطت دمعة صامة على جبينها .. احسست أني أهملت زوجتي ..

كان المفروض أن أهتم وأقلل من سهراتي وخاصة انها في الشهر التاسع .. قاست زوجتي الآلام يوماً وليلة في المستشفى حتى رأى طفلي النور .. لم أكن في المستشفى ساعتها .. تركتُ رقم هاتف المنزل وخرجت .. وقلت اتصلوا بي حتى تعلموني الخبر .. ففعلوا .. اتصلوا بي ليزفوا ليَّ نبأ قدوم سالم حتى وصلت المستشفى ..

طُلِب مني أن أراجع الطبيبة .. أي طبيبة .. المهم الآن أن أرى ابني سالم ... قالوا لي لابد من مراجعة الطبيبة .. أجابتني موظفة الاستقبال بحزم .. صُدمتُ حين عرفت ان ابني به تشوه شديدٌ في عينيه ومعاق في بصره .. تذكرت المتسول الاعمى .. قلتُ سبحان الله كما تدين تُدان .. لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنة بقضاء الله سبحانه وتعالى راضية .. طالما نصحتني .. وطالما طلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين .. .. كلا .. هي لاتسميها تقليداً ، بل غيبه .. معها كل الحق ..


لم أكن أهتم بسالم أبداً كثيراُ ، اعتبرته غير موجود في المنزل .. حين يشتدُ بكاؤه أهرب الى الصالة لأنام فيها .. كانت زوجتي تهتم به كثيراً وتحبه .. لحظة .. لا تظنوا اني أكره ، لكني لم استطيع ان أحبه .. أقامت زوجتي احتفالاً حين خطى خطواته الاولى ... وحين أكمل الثانية إكتشفنا أنه أعرج .. كلما زدتُ ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً بسالم ، حتى بعد أن أنجبت عمراً وخالداً .. ..

مرت السنوات وكُنت لاهي .. غرّتني الدنيا وما فيها كنت كاللعبة في يديّ رفقة السوء .. مع إني كنت أضن من يعلب عليهم لم تيأس زوجتي من اصلاحي . كانت دائماً تدعو لي بالهداية .. لم تغضب من تصرفاتي الطائشة .. أو إهمالي لسام واهتمامي بباقي اخوته ..

كبر سالم ولم أُمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين .. لم أكن أحس بمرور السنوات ... أيامي سواء .. ليل ونهار .. عمل ونوم .. طعام وسهر .. حتى ذاك اليوم .. كان يوم الجمعة .. اسيقضت الساعة الحادية عشر ظهراً ، مازال الوقت مبكراً .. اقول ... لكن لا يهم أخذت دوشاً سريعاً .. لبست وتعطرت ، وهممت بالخروج ..

استوقفني منظره .. منظر سالم .. كان يبكي بحرفة .. انها المرة الأولى التي أرى فيها سالم يبكي منذ كان طفلاً .. أأخرج ؟؟ أم أرى ممكا يشكو سالم ؟؟ قلتُ لا كيف أتركه وهو في هذه الحالة .. أهو الفضول ؟؟ أم الشفقة ؟؟؟ لا يهم ، سألته لماذا تبكي يا سالم ؟

حين سمع صوتي توقف .. بدأ يتحسس ما حولهُ .. .. ما به يا ترى ؟!! اكتشفت ان ابني يهرب مني ! .. الآن أحسست به أين كنت منذ عشرة سنوات ؟؟ تبعته .. كان قد دخل غرفته .. رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ، وتحت إصراري عرفت السبب .. تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله الى المسجد ..

اليوم الجمعة .. خاف سالم ألا يجد مكان في الصف الاول .. نادى والدته لكن لا مجيب حينها .. حينها وضعت يديّ على فمه ، كأني أطلب منه أن يكف عن حديثه ، وأكملت حينها ( بكيت يا سالم ) .. لا أعلم من الذي دفعني لكي أقول له .. سالم لا تحزن هل تعلم من سيرافقك اليوم الى المسجد ... أجاب سالم أكيد عمر .. ليتني أعلم إلى أين ذهب قلت لا يا سالم أنا من سيرافقك ... استغرب سالم ! لم يصدق , ظن أني أسخر منه .. عاد الى بكائه مسحت دموعه ُ بيدي .. وأمسكت بيده أردت أن أوصله بالسيارة .. رفض قائلاً : أبي المسجد قريب .. أريد أن أخطو الى المسجد فإني أحتسب كل خطوة اخطوها ..

يقول لا أذكر آخر مرة دخلت فيها الى المسجد .. ولا أذكر آخر مرة سجدت لله سجدة .. هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم .. على ما فرطت طوال السنوات الماضية ... مع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين إلا اني وجدت لسالم مكاناً في الصف الاول .. استمعنا لخطبة الجمعة معاً ، وصليت بجانبه ..

بعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً .. استغربت كيف سيقرأ ... هو أعمى ؟! هذا ما تردد في نفسي ولم أصرح له خوفاً من جرح مشاعره .. طلب مني أن افتح المصحف على سورة الكهف .. نفذت له ما طلب .. وضع المصحف أمامه وبدأ في قراءة السورة .. .. يالله !!!! أنه يحفظ سورة الكهف كاملة وعن ظهر غيب .. خجلتُ من نفسي .. أمسكت مصحفاً ... أحسست برعشة في أوصالي .. قرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني هذا المرة ... بكيت ... أنا الذي بكى ... بيكت حزناً وندماً على ما فرطت .. ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي .. لقد كان سالم يمسح دموعي ويهدأ من خاطري ... .. عدنا الى المنزل .. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح , حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم .. منذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد ... هجرت رفقاء السوء ، واصبحت الى رفقة خيرة ... عرفتها في المسجد ، ذقت طعم الايمان . عرفت منهم أشياءً ألهتني عن الدنيا .. لم أُفّوْت حلقة ذكر أو قيام .. ختمت القرآن عدة مرات ، وانا نفس الشخص الذي هجرته سنوات .. رطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسُخريتي من الناس .. أحسست أني اكثر قرباً من اسرتي .. أختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تُطلُ من عيون زوجتي ... الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم من يرى سالم يظنه أنه ملك الدنيا وما فيها .. حمدت الله كثيراً وصليتُ له كثيراً على نعمه ..
ذات يوم قررت انا واصحابي أن نتجه الى أحد المناطق البعيدة في برامج دعوية مع مؤسسة خيرية .. ترددت في الذهاب .. استخرت الله واستشرت زوجتي .. توقعت إنها ترفض . لكن حدث العكس ، فرحت كثيراً بل شجعتني ...

حين اخبرت سالم عزمي للذهاب أحاط جسمي بذراعيه فرحاً .. والله لو كان طويل القامة مثلي لما توانَ من تقبيل رأسي .. بعدها توكلت على الله وقدمت اجازة مفتوحة بدون مرتب .. والحمدلله جاءت الموافقة بسرعة أسرع مما أتصور ...

تغيبت عن البيت ثلاثة أشهر .. وكنتُ خلال تلك الفترة اتصل كلما سمحت لي الفرصة بزوجتي أُحدث أبنائي ... لقد اشتقت لهم كثيراً ، لكني اشتقت أكثر لسالم .. تمنيت سمعا صوته .. هو الوحيد لم يحدثني منذ سافرت .. أما أن يكون في المدرسة أم بالمسجد ساعة اتصالي بهم .. كلما أحدثُ زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي .. وتقبلهُ .. كانت تضحك حين تسمعني اقول هذا الكلام .. إلا أخر مرة هاتفتها فيها لم اسمع ضحكتها المتوقعة .. تغير صوتها وقالت لي ان شاء الله ..

.. أخيراً عدتُ غلى المنزل ... طرقت الباب ، لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره .. حملتهُ بين ذراعيّه وهو يصحيح ( بابا .. بابا ) انقبض صدري حين دخلتُ البيت .. استعذت بالله من الشيطان الرجيم .. سُعِدتْ زوجتي بقدومي . لكن هناك شيىءٌ قد تغير فيها .. تأملتها جيداً .. انها نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها .. عادت ثانية الى عينيها .. سألتها ما بكِ ؟

قالت لا شيىء .. هكذا ردت .. فجأة تذكرت من نسيتتُ للحظات ! .. قلت لها أين سالم خفضت رأسها لم تجب ... لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما زال يرنُ في أُذني حتى هذه اللحظة .. قال أبي ان سالم راح عند الله إلى الجنة ..

لم تتمالك زوجتي الموقف .. أجهشت بالبكاء .. وخرجت من الغرفة .. عرفتُ بعدها أن سالم أصابته حُماً قبل مجيئي باسبوعين .. أخذته زوجتي الى المستشفى ولازمته يومين .. وبعد ذلك فارقته الحُمم .. حين فارقت روحه الجسد .. أحسست ان ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى .. أجل أنه اختبار .. وأيّ اختبار ؟.. صبرت على مصابي وحمدت الله الذي لا يحمدُ سواه .. ما زلت أحسُ بيده تمسحُ دموعي وذراعيه تحيطني .. كم حزنت على سالم الاعمى الاعرج .. لم يكن أعمى .. لم يكن أعرج .. انا من كنت اعمى حين انسقت وراء رفقة السوء .. ولم يكن سالم أعرج لأنه استطاع أن يسلك طرق الايمان .. رغم كل شيىء ..




اخوكم : الاثرم
AL-ATHRAM غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس